نساء العشيرة

Publié le par Kostani

 

 

 

العصافير لا تغرد في الهجير، لقد استكانت وخلدت للنوم ، سكون يطبق على المزرعة المحاذية للمقبرة، نصف القبور انفرجت أحشاؤها وأبانت عن ساكنتها العتيقة، فك هنا ونصف ضلع هناك  وعظم عضد هنالك، وحدها الجماجم مختفية. في مثل هذا المكان وهذا الزمان لا أحد يجرؤ على زيارة الحقول. وحدها عميدة العشيرة تحب أن تستغل الهدوء لتكسر نصف جريدة يانعة أو غصين زيتون أخضر أوجز بعض ما تبقى من حشائش الأرض. كانت تحب أن تفعل ذلك كل ظهيرة. صحيح أن دورة السنوات العجاف قد بدأت، لكن الأسرة التي تديرها العجوز لم تكن فقيرة، وبهائمها ليست بحاجة لما تحاول جمعه لهن من سقط المزرعة، إلا أن حبها الشديد لبقرتيها وتربيتها الرشيدة الصارمة حتمت على أم الكل أن تغامر كل يوم عند حدود المزرعة بجانب المدينة- هكذا يسمي أهل الواحة المقبرة- مدينة لا يسكنها الموتى فحسب بل والجن وكل ما يعيش تحت الأرض.

والعميدة في غفلة من أمرها خرج من المقابر القديمة دخان أبيض بصفاء الحليب وعلو السماء. أحدث الدخان جلجلة أرغمها على رفع عينيها لتبصر العمود، أخذت تبصق على الأرض وتبسمل دون أن تستطيع نزع عينيها الكليلتين عن الهول الذي بدأ يقترب منها ليستحيل في لحظة إلى مارد أخفى عنها الأفق، أقترب أكثر إذ هو في حالة آدمي عملاق مغطى ببياض.

_هل لديكم صبيان؟

سأل المارد في صوت كأنه يخرج من بثر.

_نعم لدينا صبيان

أجابت العجوز

وهل لديكم أرامل وأيتام ومساكين؟

_ نعم قالت أم الكل وهي تتلو في سرها المعوذتين.

_أنتم لا تتصدقون بما فيه الكفاية، تلك الرمانات واللويزات القليلة والمسمنات اللذيذة التي تهبينها للجيران والأطفال غير كافية، ساكنة تحت الأرض غير راضية عما تفعلون فحبست عنكم عيون الأرض وماء السماء. تصدقوا تنقذوا، تصدقوا تنقذوا، قدمنالك وجه النبي آربي تعفو علينا،  قدمنالك وجه النبي آربي تعفو علينا... وأخذ يرددها ويرجع نحو المقبرة شيئا فشيئا حتى توارى عن أنظار مي عيشة. 

التحقت مي عيشة بالقصر مسرعة يكاد ينفطر قلبها، وجدت نساء العشيرة بباب الروضة ينخلن القمح وميمونة العجوز البدوية تغزل الصوف. روت لهن الحكاية واقتنعن جميعا على جدوى تهيئة كسكس الصدقة. نادين علينا نحن الأطفال، إذ لا صدقة بدون أطفال ثم استحلن إلى خلية نحل يفتل بعضهن الطحين والأخرى تجمع الحطب والثالثة تغسل الأواني...

لأم عيشة حفيد مشاغب طلقت أمه من أبيه وتزوجت رجلا آخر وتركته لأمها يشربها المحن. أعلن الربيب أن الكسكس لا يكفي، وأنه لا مناص من إراقة دماء ديك أسود على أكرور باب المقبرة، أذعنت العميدة وأخرجت الضحية من خم الدجاج.

صار الربيب يحمل الديك والموسى بيد وراية بيضاء بيده الأخرى، تبعناه نحن الأطفال، هو ينشد،  قدمنالك وجه النبي، ونحن نردد، آربي تعفو علينا، حتى باب الموتى. رفع يده إلى السماء وأنزلها على عنق الديك المسكين ورما به لتروي دماؤه أحجار الأكرور.

تمتع الجميع بحفل بهيج أضفى فرحة لا تضاهي على الساكنة.

مرت أيام ونسينا الحفل والصدقة والمارد، غير أن خبرا سرى في القرية كالهشيم مفاده أن العفريت لم يكن غير الربيب الذي أعياه نصح الناس للعجوز، فأراد ضرب عصفورين بحجر، أن يثنيها عن الخروج كل ظهيرة وأن يزيل بعض الرتابة عن حياة الناس.

رحم الله مي عيشة التي كانت أمي تغبط موتها. لقد أسعفتها صدقاتها وحبها للأطفال، إذ كانت تردد قبيل الرحيل أن نساء الخطاب يحطن بها كل يوم ويدعونها للرحيل، وهي الأمية التي ما سمعت يوما عن الخطاب وغير الخطاب من الصالحين.

حدث كل ذلك قبل أن يدخل الدراري المدرسة  ويلبسون القمصان والسراويل ويكذبون كل شيء ويجعلونا نشكك في أنفسنا وما تركه الأولون.

ورغم ذلك حدث أن هدمنا أنا وعلي كركور باب المقبرة، لكن ولدهشتنا وجدناه قد أعيد كما هو، لقد بناه الآخرون.

 

Publié dans tadighoust

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article